بقلم / محمـــد الدكـــروري
إن محبة المساكين والفقراء ومجالستهم والدنو منهم واستشعار ما هم فيه من العناء لها أثرها في قلب المؤمن عظيم، فمحبتهم هي أصل الحب في الله تعالى لأنه ليس عندهم من الدنيا ما يوجب محبتهم لأجله، فلا يحبون إلا لله عز وجل، والحب في الله من أوثق عُرى الإيمان، وهو أفضل الإيمان، فقد قال حبيبنا صلى الله عليه وسلم ” من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان” رواه ابن ماجه، ومحبة المساكين وتقريبهم والاهتمام بهم من أسباب القرب إلى الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، وبهذا وصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمنا السيدة عائشة رضي الله عنها فقال لها ” يا عائشة أحبى المساكين وقربيهم فإن الله يقربك يوم القيامة” رواه الترمذي، وذلك لأن المساكين الصابرين المؤمنين مقربين إلى الله يوم القيامة، فإذا اجتمع في الشخص إيمان مع فقر ارتفعت منزلته في الدنيا بقوة صبره وإجابة دعائه، وفي الآخرة بتشفيعه في الناس.
وعلو منزلته لأن فقره كان سببا لتواضعه ولين جانبه، ولذلك ينبغي حب المساكين والقرب منهم، فإن أحببتهم كنت متواضعا أما إن تكبرت عن أن تجلس معهم، حُشرت مع المتكبرين والعياذ بالله، وبالمساكين والفقراء يرزق الأغنياء، وبالضعفاء ينصر الأقوياء، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم ” هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم” رواه البخارى، وذلك لأن الضعفاء أشد إخلاصا في الدعاء، وأكثر خشوعا في العبادة، لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا، وقال بعض الأولياء الصالحين إن المساكين يقصد بهم كذلك المفتقرين إلى الله سبحانه وتعالى والمنكسرين له، الذين خلعوا ثياب العجب والكبر، وأتوا إلى الله طائعين مستسلمين، فأحلى معنى للإيمان تتذوقه في حياتك يوم ينكسر القلب لله، يوم تحس أنك ذليل بين يدي الله ليس فقر أموال، لكنه فقر مطلق، فقر في كل شيء، كل ذرة فيك تحتاج إلى الله فيقول تعالى فى سورة فاطر ” يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد”
ولنعلم أن الله تعالى قضى بحكمته أن يخلق الناس مختلفي المقامات، متفاوتي القامات، متبايني الدرجات، ليبلو بعضهم ببعض، وليختبر صبرهم، ويمتحن عبادتهم وتوكلهم، فجعل منهم الذكر والأنثى، وجعل منهم الشريف والخامل، وجعل منهم الصحيح والسقيم، وجعل منهم الغني والفقير، ولئن جعل الله سبحانه هذا التفاوت سنة كونية بين البشر، فليس ليصير الفقر ظاهرة مجتمعية متفاقمة، يعيش معها الفقراء حياة الضيق والضنك، ويرتكسون معها في حمأة الحرمان والإقصاء، بل دعا إلى التكافل بين الناس، والاهتمام بحالات الفقراء والمحتاجين، وشرع لهم من الوسائل والطرائق ما يرفد نسيج التلاحم بين الغني المشبع، والفقير المهموم، ويحقق وشيج التراحم بين المتخم المترع، والمعوز المحروم، كما قال تعالى في بيان صفات عباد الله الصالحين فى سورة المعرج ” والذين فى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم” فبالفقراء يرزق الأغنياء.
وبالضعفاء ينصر الأقوياء ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم “هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم” رواه البخاري، وقال ابن بطال المالكي فى تأويل الحديث، أن الضعفاء أشد إخلاصا في الدعاء، وأكثر خشوعا في العبادة، لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا، ألا تستحق هذه الشريحة ما يناسبها من عناية ورعاية؟ ولقد مرضت امرأة مسكينة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرضها، وكان صلى الله عليه وسلم يعود المساكين، ويسأل عنهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إذا ماتت فآذنوني” فأخرج بجنازتها ليلا، وكرهوا أن يوقظوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبر بالذي كان منها، فقال “ألم آمركم أن تؤذنوني بها؟” قالوا يا رسول الله، كرهنا أن نوقظك ليلا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صف بالناس على قبرها، وكبر أربع تكبيرات” رواه النسائي، وقد استقى الصحابة الكرام.
والصالحون بعدهم هذا الهدي النبوي الكريم، فجسدوه في علاقاتهم بالفقراء والمحتاجين، فكانوا يَرِقون لحالهم، ويواسون عوزهم، ويسدون خلتهم، ومن عجيب ما نقله ابن كثير في البداية والنهاية عن عبد الله بن المبارك، وشديد اعتنائه بالمحتاجين قوله خرج مرة إلى الحج، فاجتاز ببعض البلاد، فمات طائر معهم، فأمر بإلقائه على مزبلة هناك، وسار أصحابه أمامه، وتخلف هو وراءهم، فلما مر بالمزبلة، إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها، فأخذت ذلك الطائر الميت، ثم لفته، ثم أسرعت به إلى الدار، فجاء فسألها عن أمرها وأخذها الميتة، فقالت أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار، وليس لنا قوت إلا ما يلقى على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ أيام، وكان أبونا له مال، فظلم، وأخذ ماله، وقتل فأمر ابن المبارك برد الأحمال، وقال لوكيله كم معك من النفقة؟ قال ألف دينار، فقال عُدّ منها عشرين دينارا تكفينا إلى مرو، وأعطها الباقي، فهذا أفضل من حجنا في هذا العام.
ثم رجع، وفي الغالب أن الرؤساء والأشراف والأغنياء والمترفون، وأهل الحل والعقد، يداخلهم من الكِبر والعناد والغطرسة وعدم قبول الحق ما لا يداخل غيرهم والعياذ بالله وهذا في كل أمة من الأمم، فما وقف أمام دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام وصار عقبة كؤودا أمام الحق والدعوة إلا أولئك المُشار إليهم، يعلم ذلك من تدبر القرآن الكريم،أما الضعفاء والمستضعفون والفقراء والمساكين فهم أول من انقاد إلى الحق، وأول من استجاب لدعوة الرسل، فالله تعالى يعلم من يستحق الهداية ممن لا يستحقها، فالله تعالى لا ينظر إلى الصور، وحُسن الأجسام والأموال، إنما ينظر إلى القلوب والأعمال، ولهذا قال هرقل عظيم الروم لأبي سفيان مَن يتبع هذا النبي أهُم الرؤساء أم الضعفاء؟ فقال أبو سفيان بل الضعفاء، فقال هرقل هكذا أتباع الرسل