بقلم / محمـــد الدكـــروري
لقد كانت الرسالة المحمدية رسالة سلام وإنسانية والرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم هو رسول الإنسانية، وإن للجوانب الإنسانية في الإسلام صور عديدة تشمل أفرادا وأعمارا وألوانا مختلفة من ضعاف المجتمع، فمنها الإنسانية في التعامل مع الخدم والعبيد، ولم تكن هذه الوصية بالخدم والعبيد فترة معينة في حياته، أو عند ظروف مخصوصة، إنما ظل كذلك حتى لحظات موته الأخيرة، وكان من آخر وصاياه للمسلمين ” الصلاة الصلاة وما ملكن أيمانكم” ومنها الإنسانية في التعامل مع الأطفال والصبيان فقد كان صلى الله عليه وسلم رحيما بالأطفال، ومنها الإنسانية في التعامل مع الضعفاء ولين الجانب لهم، ومنها الإنسانية في التعامل مع الأسرى، وقد تجلت مظاهر الإنسانية في تعامل رسول الله مع الأسرى، وروى أنها جُعلت في حظيرة بباب المسجد، فمر بها رسول الله فقامت إليه، وكانت امرأة جزلة أي عاقلة فقالت يا رسول الله، هلك الوالد.
وغاب الوافد، فامنن علي من الله عليك فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم ” قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتي تجدي من قومك من يكون له ثقه حتي يبلغك إلي بلادك ثم آذنيني” وتقول ابنة حاتم الطائي وأقمت حتى قَدم ركب من بلي أو قضاعة، وإنما أريد أن آتي أخي بالشام، فجئت فقلت يا رسول الله، قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ قالت فكساني، وحملني، وأعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام، وهنا وقفة مع هذا الموقف العظيم نرى فيه بوضوح هذا التعامل الإنساني الرحيم من رسول الله صلي الله عليه وسلم مع هذه الأسيرة حيث لم يرضي لها أن تخرج منفردة وحيدة، بل طلب منها ألا تتعجل بالخروج حتى تجد من قومها من يكون ثقة فتسير معه، وكان صلى الله عليه وسلم يدفع الأسير إلى بعض صحبه ويقول “أحسن إليه” فيؤثر على نفسه وأهله إمعانا في العمل بوصية رسول الله صلي الله عليه وسلم.
وأملا في دخوله ضمن أبرار عباد الله، وهذا معنى قوله تعالى كما جاء في سورة الإنسان ” ويطعمون الطعام علي حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا” وعاتب جنده على قتل رجل مشرك رحمة بامرأة تحبه، فقد روى الطبراني في الأوسط بسند حسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فغنموا، وأخذوا رجلا منهم، فقال إني لست منهم، إني عشقت امرأة فلحقتها، فدعوني أنظر إليها ثم اصنعوا ما بدا لكم، فلما رآها قال أسلمي حُبيش قبل نفاد العيش، قالت نعم فديتك، ثم قدموه وضربوا عنقه فوقعت عليه وشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت حزنا، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه بما جرى فقال “أما كان فيكم رجل رحيم” ؟ ومنها أيضا الإنسانية في إقامة الحدود، ومنها الإنسانية في التعامل مع النساء، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم الوصية بالنساء.
وكان يقول لأصحابه ” استوصوا بالنساء خيرا” بل إن هناك ما هو أعجب من ذلك، وهو رحمته صلى الله عليه وسلم بالإماء، وهن الرقيق من النساء، فقد روى أنس بن مالك قال ” إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت” رواه البخاري، فلا يعرف موقف من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم آذى فيه امرأة أو شقّ عليها، سواء من زوجاته أو من نساء المسلمين، بل من نساء المشركين، وأحيانا تخطئ زوجته خطأ كبيرا، ويكون هذا الخطأ أمام الناس، وقد يسبب ذلك الإحراج له صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فمن رحمته وإنسانيته يقدّر موقفها، ويرحم ضعفها، ويعذر غيرتها، ولا ينفعل أو يتجاوز، إنما يتساهل ويعفو، وهذا ما حدث عندما ألقت السيدة عائشة رضي الله عنها بالقصعة من الطعام التي أرسلتها إحدي زوجاته صلي الله عليه وسلم، فلقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا الموقف ببساطة، وجمع الطعام من على الأرض، وقال لضيوفه “كلوا” وعلل غضب زوجته بالغيرة، ولم ينسي أن يرفع قدرها، فقال “غارت أمكم” أي أم المؤمنين، فأي إنسانية وأي رحمة هذه التي كانت في قلبه صلى الله عليه وسلم، ومنها أيضا الإنسانية في التعامل مع الحيوان، فقد تجاوزت إنسانيته صلى الله عليه وسلم ذلك كله إلى الحيوان والبهيمة، فيروي عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطا لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه فأتاه صلى الله عليه وسلم فمسح ظفراه فسكت، فقال صلى الله عليه وسلم “من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال لي يا رسول الله، فقال له ” أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه” رواه أبو داود، وتتجاوز رحمته البهائم إلى الطيور الصغيرة.
التي لا ينتفع بها الإنسان كنفعه بالبهائم، ومنها الإنسانية في التعامل مع كبار السن، فقد جاء أبو بكر بأبيه عام الفتح يقوده نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه كالثغامة بياضا من شدة الشيب، فرحم النبي صلى الله عليه وسلم شيخوخته وقال “هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه، قال أبو بكر رضي الله عنه هو أحق أن يمشي إليك يا رسول الله من أن تمشي إليه” وهو القائل صلى الله عليه وسلم ” ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا” رواه أحمد والترمذي والحاكم، ومنها الإنسانية في التعامل مع الكفار فالإنسانية في الإسلام لم تقتصر على المسلمين فحسب بل تعدت لتشمل الكفار كذلك، فعندما قيل له صلى الله عليه وسلم ادع على المشركين قال “إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة” رواه مسلم، وقال في أهل مكة لما جاءه ملك الجبال ليأمره بما شاء “بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا” رواه البخاري ومسلم، ولما أصيب في أحد قال له الصحابة الكرام ادع على المشركين فقال ” اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون” رواه البيهقي.