الدكروري يكتب عن الوطن ذاكرة الإنسان ” جزء 1″


بقلم / محمـــد الدكـــروري

إن المحبة للأوطان والانتماء للأمة والبلدان أمر غريزي وطبيعة طبع الله النفوس عليها، وحين يولد الإنسان في أرض وينشأ فيها فيشرب ماءها ويتنفس هواءها ويحيا بين أهلها فإن فطرته تربطه بها فيحبها ويواليها، وإن حب الوطن شعور كم خفقت به القلوب وشوق كم كلفت به الأفئدة وحنين يزلزل مكامن الوجدان، وحب أطلق قرائح الشعراء وهوى سُكبت له محابر الأدباء وحنين أمض شغاف القلوب وإلف يأوي إليه كرام النفوس وسليم الفطر، وحب لم يتخل منه مشاعر الأنبياء وود وجد في قلوب الصحابة والأصفياء، بل هو شعور تغلغل في دواخل الحيتان تحت الماء ورفرفت لأجله أجنحة الطير في السماء، فإن الوطن هو جوهرة ثمينة تتعلق بها روح المرء، ولا شك بأن كلمة الوطن تعني الكثير، وقد يترجمها الكثيرون كما يفهمون معنى الوطن من منطلق رأيهم الشخصي، ففي عهد الحضارات القديمة لم يكن هناك مفهوم شائع للوطن.

بل كان يقتصر على المنطقة التي يعيشون حياتهم فيها، وحتى زمن الجاهلية لم تكن كلمة الوطن تذكر في أشعارهم لأنهم كانوا دائمي التنقل من مكان لآخر، حيث يقتصر معنى الوطن على المكان الذي يجلس فيه المرء ويسهل مفارقته، ولكن ظهر مفهوم الوطن خلال العصر العباسي على لسان الشاعر ابن الرومي الذي قال عنه أنه بلد المنشأ، وبلد الصبا والشبيبة “وطن صحبت به الشبيبة والصبا ولبست ثوب العمر وهو جديد” وقال أيضا “إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهـم عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا” والوطن هو المكان الذي يقيم فيه الإنسان، ويتخذ منه محلا للإقامة، وهو بمثابة المكان الذي ينتمي له الفرد سواء أكان موضع ولادته أم لم يكن، كما تشير لفظة الوطن إلى مرابض الأغنام والأبقار التي تأوي إليها، ويجدر بالذكر أن الوطن مأخوذة من وطن فلان بالمكان أي أقام به، وأوطن الشخص بالمكان أي اتخذه مسكنا، والموطن هو كل مكان أقام فيه الإنسان لأمر ما.

وقيل عن حب الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وحنينهم إلى وطنهم مكة المكرمة، بأنه إن كان دعاة الوطنية يريدون بها، أي الوطنية حب هذه الأرض وألفتها والحنين إليها والانعطاف نحوها، فذلك أمر مركوز في فطر النفوس من جهة، ومأمور به في الإسلام من جهة أخرى، وإن بلال الذي ضحى بكل شيء في سبيل عقيدته ودينه هو بلال الذي كان يهتف في دار الهجرة بالحنين إلى مكة في أبيات تسيل رقة وتقطر حلاوة، فكان يقول ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة، بواد وحولي إذخر وجليل وهـل أردن يوما مياه مجنة، وهل يبدون لي شامة وطفيل، وقد أخرج الأزرقي في أخبار مكة عن ابن شهاب قال، قدم أصيل الغفاري قبل أن يضرب الحجاب على أزواج النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، فدخل على السيدة عائشة رضي الله عنها، فقالت له يا أصيل كيف عهدت مكة؟ قال عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها.

قالت أقم حتى يأتيك النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يلبث أن دخل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقال له “يا أصيل كيف عهدت مكة؟ قال والله عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق إذخرها، وأسلت ثمامها، فقال صلى الله عليه وسلم “حسبك يا أصيل لا تحزنا” وفى روايه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ويها يا أصيل، دع القلوب تقر قرارها” أرأيت كيف عبر النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، عن حبه وهيامه وحنينه إلى وطنه بقوله “يا أصيل دع القلوب تقر” فإن ذكر بلده الحبيب الذي ولد فيه، ونشأ تحت سمائه وفوق أرضه، وبلغ أشده وأكرم بالنبوة في رحابه أمامه يثير لواعج شوقه، ويذكي جمرة حنينه إلى موطنه الحبيب الأثير العزيز، وأرأيت كيف أن الصحابة المهاجرين رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يحاولون تخفيف حدة شوقهم وإطفاء لظى حنينهم إلى وطنهم بالأبيات الرقيقة المرققة.

التي تذكرهم بمعالم وطنهم من الوديان والموارد والجبال والوهاد والنجاد، وإن تراب الوطن الذي نعيش عليه له الفضل علينا في جميع مجالات حياتنا الاقتصادية والصناعية والزراعية والتجارية، بل إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان يستخدم تراب وطنه في الرقية والعلاج، فعن السيدة عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في الرقية ” باسم الله، تربة أرضنا وريقة بعضنا يشفى سقمنا بإذن ربنا ” رواه البخارى ومسلم، وإن الشفاء في شم المحبوب، وإن من ألوان الدواء هو لقاء المحب محبوبه أو أثرا من آثاره، ألم يُشف يعقوب ويعود إليه بصره عندما ألقَوا عليه قميص يوسف؟ فقد قال الجاحظ ” كانت العرب إذا غزت وسافرت حملت معها من تربة بلدها رملا وعفرا تستنشقه عند نزلة أو زكام أو صداع ” وهكذا يظهر لنا بجلاء فضيلة وأهمية حب الوطن والانتماء والحنين إليه في الإسلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.