التفاهة .. ظاهرة فلسفية في واقع معقد


د. محمود محمد علي


لا شك في أن ثقافة التفاهة أصبحت تسيطر على الحياة اليومية للبشر، وتأخذ من جهد عقولهم الكثير، فتجد الناس يقضون أغلب ساعات أعمارهم ، في جدال ونقاش، وخصام أحيانا، حول أجمل قميص، وأفضل حذاء رياضي، وآخر صيحات الموضة الرجالية والنسائية والشبابية ، وأجمل طلة ، يمكن أن تقدم بها نفسك للناس، وأجمل بقرة في العالم، وأفضل ثور، وما هي أحلى نظرة للمعز، وتقام الحلقات النقاشية، والأمسيات الطويلة في التلفزيونات حول العالم لمناقشة ذلك ويجتمع كبار خبراء عيون المعز للتناظر حول أحلى نظرة ويصوت الجمهور لاختيار المعزة ذات العيون الجميلة صاحبة النظرة الحالمة معبودة الجماهير ويطاف بها حول العالم ويكسب من خلفها مالكها آلاف المليارات من التفاهة المنتشرة في عالم اليوم.
وهكذا أصبح العالم الذي نعيشه يتميز بالتفاهة والرداءة الشاملة في جميع مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية بحيث عرفت الدول والمجتمعات تفككا وانحطاطا في قيمها الثقافية جعلت من التفاهة واللامبالاة والتبسيطية نمطا للعيش بدون عمق إنساني يتوخى بناء الإنسان كإستراتيجية وهدف.
إن التافهين أصبحوا قدوة للأجيال القادمة حتى أصبح العالم مهددا بتأبيد سلطة التفاهة، وأتصور أن دلائل وجود التافهين فى مراكز صناعة القرار شائعة، ولا تغيب عن أقل الناس فطنة منذ سنوات طويلة.
وعلى السياق ذاته، يقدّم البروفيسور الكندي “آلان دونو” في كتابه ” نظام التفاهة ” عصرنا على أنه عصر سيطرة التفاهة بلا منازع، وليسخّر قلمه ولغته وأسلوبه لنقدها، ونقد الأشكال والأيقونات، التي تشكّلها وتتشكّل بها في الوقت ذاته، والتفاهة بشكل خاص تميّز عصرنا عن بقية العصور.
إن البدائل الحتمية لنظام التفاهة تقتضي عودة المثقف إلى الفضاء العمومي لجعله مجالا للحوار والتواصل ومقارعة الأفكار و البرامج التي تساهم في بناء المواطن و الرأي العام وقضاياه المصيرية كالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الأفراد والجماعات و المساواة والسلطة وتوزيع الثروة. فالمواطنة لم تأت من فراغ بل هي سيرورة متوالية الحلقات أفضت إلى ما هي عليه الآن في المجتمع الأوربي والمجتمعات المتقدمة بشكل عام من حقوق ومكتسبات وواجبات للمواطن داخل المجتمع بالرغم من التراجع والجزر الذي تعاني منه حاليا.
الخلاصة: التفاهة عبارة عن إشكالية وواقع معقّد، مشكلة تُلقي بظلال طويلة قاتمة على حياتنا المعاصرة، طبيعتها المختلّة وظيفياً، وبشكل دراماتيكي قادرة على إفساد مستقبلنا، قدرتها على تخريب كل شيء أمر واقع، ومهما حاولنا الهرب لا يمكننا إنقاذ أنفسنا منها، فنحن نعيش في عالم لا يعترف بقيمتنا.. ورغم كل الإحباط الذي يشكّله الكتاب إلا أنه لا يتجاهل تنبيهنا إلى أن لنا دورا هاما، وهو تغيير هذا النظام تغييراً جذرياً، عوض أن نعلن الحداد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.