د. محمود محمد علي
ليس من المعقول أن تمر علينا الذكرى الخامسة لرحيل واحد من أهم صناع وكتاب الصحافة محمد حسنين هيكل، والذى غاب عن عالمنا فى 17 فبراير 2016، عن عمر يناهز الـ93 عاما، وهو واحد من أهم من ساهموا فى صياغة السياسة فى مصر منذ فترة الملك فاروق والذى تدرج فى المناصب فى مهنة الصحافة والإعلام، وأصدر عشرات المؤلفات ، فهو صاحب أهم مسيرة صحفية وفكرية، بتقرير عنوانه «محمد حسنين هيكل.. ذاكرة الأمة التي لا تموت ، فهو ذلك الأستاذ صاحب المسيرة الصحفية الفذّة، والذي عاش 70 عاما من عمره شاهد عيان على أهم سنوات التاريخ المصري، إنه محمد حسنين هيكل – الجورنالجي والسياسي – الذي هزم السرطان 3 مرات في حياته، إلا أنّ الفشل الكلوي تسبب في وفاته عن عمر 93 عاما في العام 2016 .
علاوة علي أنه يعد من أشهر وأبرز الصحفيين المصريين والعرب، ومحلل سياسي مخضرم، والذي سنتذكره دائماً لشغفه وحبه للعمل الصحفي. كان هيكل يوصف بأنه مؤرخ تاريخ مصر الحديث، ووصفته جريدة The New York Times بأنه عميد المحللين السياسيين العرب ؛ وقد قال عنه أستاذنا المرحوم مكرم محمد أحمد :” تحتاج مصر إلي بضعة عقود من الزمن كي يأتيها صحفي عملاق في قامة أستاذنا الفاضل محمد حسنين هيكل ، يملك مثل قدرته وبراعته وشموخ قلمه ، ويحاكيه في نزاهة القصد والمسلك ويحظي بمثل هذه الموهبة الرائعة التي تعطيه قدرة فائقة علي رؤية أبعاد الواقع واستبصار غياهب المستقبل ، في سلاسة منقطعة النظير ، تزينها مهارة فذة في رسم الصور ونحت الكلمات ، وصك التعابير .. ولا أظن أن صحفيا مصريا علي امتداد تاريخ هذه المهنة امتلك كل هذه الأدوات التي جعلت من هيكل الصحفي روائيا مبدعا ، تنصاع له كل فنون الحكي ، ومصورا فنانا ، يحيل قلمه متي شاء إلي فرشاه مبدعة ، ترسم ظلال وأضواء وألوان أكثر الصور والمواقف تعقيدا ، ومحللا بارعا ، يتابع عن كثب تطورات عالمنا ، يصعب أن تفاجئه بخبر أو معلومة أو فكرة ، ولغويا ضليعا ، يرقي بفن الكتابة السياسية إلي حدود الشعر (2)
كما قال عنه فهمي هويدي، الكاتب والصحفي الشهير، “طوال سنوات عمله الحافلة والمليئة بالأحداث الصاخبة، كان هيكل يرى نفسه أولاً وقبل كل شيء صحفياً. فقد اضطلع بمناصب أخرى في لحظات معينة من التاريخ، وكان مصدراً موسوعياً من المعلومات، وكاتباً ومحللاً سياسيا ًعظيماً، إلا أنه رأى نفسه صحفي في المقام الأول، وكان كذلك في كل يوم من حياته حتى اليوم الذي أصبح فيه مريضاً وتعباً على الاستمرار .
والحقيقة فإنني أؤيد كل ما قاله أستاذنا مكرك محمد أحمد ، وكذلك ما قاله الأستاذ فهمي هويدي ، وأضيف بأنه سيظل اسم الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل اللامع مثار اعجاب الملايين من القراء في مصر والعالم العربي ، فهو كما قال الأستاذ أبو السعود إبراهيم :” صاحب أسلوب متميز ، وتاريخ حافل في الصحافة العربية ، ومؤلفاته مؤثقة بالوثائق والمستندات تؤكد قدرته الفائقة علي التحليل . كلماته توزن بالذهب في الصحف الأجنبية .. ومقالاته وأحاديثه تصدر في كبريات الصحف في العالم .. فهو بحق أحد عمالقة الصحافة المصرية والعربية .. إنه أمة في رجل .. الأستاذ محمد حسنين هيكل نجم ساطع في سماء الصحافة المصرية والعالمية .. وصل إلي مكانته بجهده وعرقه ، وبذكائه استطاع أن يقف وسط العمالقة .
ولد محمد حسنين هيكل في 23 سبتمبر عام 1923 بقرية باسوس بمحافظة القليوبية، وبدأ وبدأ الدراسة بالمراحل المتصلة ثم اتجه إلى الصحافة فى وقت مبكر حيث التحق بجريدة “الإيجيبشيان جازيت” حيث عمل كمحرر تحت التمرين بقسم الحوادث ثم انتقل إلى القسم الألماني، شارك في تغطية بعض المعارك التي خلفتها الحرب العالمية الثانية، ثم التحق بمجلة آخر ساعة عام 1945 كمحرر أيضا واستمر في العمل بهذه المجلة حتى أصبحت تحت ملكية جريدة أخبار اليوم .
وخلال هذه الفترة عمل هيكل كمراسل متجول لجريدة أخبار اليوم لينقل الأحداث الجارية من كل مكان بالعالم سواء في الشرق الأوسط أو الشرق الأقصى حتى أنه سافر إلى كوريا وإلى أفريقيا وحتى البلقان، واستقر بمصر عام 1951 حيث تولى منصب رئيس تحرير مجلة آخر ساعة وفي نفس الوقت مدير تحرير جريدة أخبار اليوم واستطاع من خلال وظيفته أن يتلمس الواقع السياسي الجاري في مصر آنذاك، ثم عين رئيس تحرير جريدة الأهرام لمدة 17 عاما وكان له عمود أسبوعي خاص به تحت عنوان بصراحة حيث استطاع أن يكتب في هذا العمود لعام 1994
والخطوة الأهم في حياة الكاتب الكبير هيكل كانت حين وقع عليه الاختيار ليذهب للعلمين لتغطية وقائع الحرب العالمية الثانية، ثم سافر إلى مالطا، ثم إلى باريس، والتقى السيدة فاطمة اليوسف صاحبة مجلة (روز اليوسف)، التي قررت ضمّه إلى مجلتها عام 1944، ثم تعرف على محمد التابعي، لينقل إلى صفحات (آخر ساعة) ليصبح هيكل بعد فترة وجيزة، رئيسا لتحريرلها ولم يكن يتجاوز 29 من عمره، ثم تولى رئاسة تحرير الأهرام لعدة سنوات، وبعدها اتجه لتأليف الكتب، ومحاورة زعماء العالم، وجرى ترجمة كتبه إلى 13 لغة .
وقد شغل هيكل منصب رئيس تحرير جريدة الأهرام من عام 1957 وحتى عام 1964، وكان كاتباً لعمود أسبوعي بعنوان “بصراحة”، والذي كان السبب الرئيسي في وصف جريدة الأهرام “جريدة نيويورك تايمز العالم العربي” تحت قيادته (وفقاً للموسوعة البريطانية Encyclopedia Britannica). كما أسس هيكل مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية. وفي بداية مشواره الوظيفي، اشتغل هيكل بجريدة الإيجيبشيان جازيت ومجلة روز اليوسف، ثم أصبح محرر بمجلة آخر ساعة وجريدة الأخبار اليومية .
كان هيكل كاتم أسرار الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. هذا، وقد قام هيكل بتأليف 40 كتاب سرد فيها أحداث تاريخية كان قد عاصرها بنفسه، مثل عبد الناصر: وثائق القاهرة Nasser: The Cairo Documents 1972 ، والطريق إلى رمضان The Road to Ramadan 1975 ، وأبو الهول والقوميسير Sphinx and Commissar 1978 ، وخريف الغضب Autumn of Fury 1983 . كما كان هيكل عضواً باللجنة المركزية بالاتحاد الاشتراكي العربي (1968 – 1974)، ووزير الإرشاد القومي (أبريل – أكتوبر 1970) .
وبعد وفاة عبد الناصر في عام 1970، ظل هيكل رئيساً لتحرير جريدة الأهرام حتى عام 1974، ثم أصبح صحفياً حراً بعد ذلك. وفي عام 2007، قدم سلسلة من المحاضرات حول الأحداث العالمية بعنوان “مع هيكل” على قناة الجزيرة القطرية.
وفى عهد الرئيس مبارك وفى مقابلة مع روبرت فيسك، انتقد بشدة الرئيس المصري السابق حسنى مبارك، قائلا: «إن مبارك يعيش في عالم خيالي في شرم الشيخ» ووصفه في موضع آخر بأنه ليس لديه حنكة سياسية، وقد اعتزل هيكل الكتابة المنتظمة والعمل الصحفي في ٢٣ سبتمبر ٢٠٠٣ بعد أن أتم عامه الثمانين ومع ذلك فإنه استمر يساهم في إلقاء الضوء بالتحليل والدراسة على تاريخ العرب المعاصر الوثيق الصلة بالواقع الراهن مستخدما منبرا جديدا غير الصحف والكتب وهو التليفزيون إلى أن توفي في١٧ فبراير ٢٠١٦ .
ومع رحيل الصحفي المصري محمد حسنين هيكل طويت صفحة شخصية سياسية وصحفية عربية وثقافية مهمة ، استطاعت أن تلعب دوراً بارزاً في التحولات الوطنية والدولية التي شهدتها المنطقة العربية ، منذ خمسينيات القرن الماضي وإلي الآن . وفي الحقيقة ، فإن رحيل هيكل لا يعني بتاتاً أن سيرته قد طويت ، ولا أن دوره كمثقف قريب من السلطة أو بعيد عنها ، ما يعني أن “ملف هيكل” بدأ بالانفتاح وإثارة الجدل والنقاش من جديد كما كان قبل ، وربما أكثر .
والحقيقة أيضا ، إن أهم التساؤلات التي يمكن أن تطرح اليوم بعد مسيرة هيكل المتشعبة كصحفي، وسياسي ، وشاهد علي العصؤ ، إن لم نقل مؤرخاً ،وكاتب ، ومفكر هي : إلي أي درجة كان هيكل يمثل نفسه كمثقف في السلطة ؟ أو ربما هل كان يمثل نوعاً جديداَ من المثقفين الذين لا تنطبق عليهم تعريفات المثقف التقليدية ليكون مثقفاً ” من” السلطة؛ بمعني أنه مثقف ” شارك ” في صناعة السلطة ، ومن ثم كان لا بد من التعبير والدفاع عنها بصفته شريكاً وليس تابعاً ؟ ويبقي السؤال الأهم الذي كان مطروحاً مع أندريه جيد ، ومالرو ، وسارتر ، ويقينا هيكل :” هل الكاتب مثقف؟ .
وقد أجاب جان بول سارتر علي هذا السؤال الذي طرحه في مؤتمر اليابان في عام 1965، قائلاً :” المثقف هو مثقف بالصدفة ، منتج من التاريخ ، والاجتماع ، بينما الكاتب منتج من القراءة ، هذا جوهره (مفهوم مفاجئ من فم سارتر) : أعماله ” تأكيد علي القيمة المطلقة للحياة المعاشة ، وملحة علي حرية هدفها الآخرين” .
إذن ، للإجابة علي التساؤلات السابقة علي هدى ” الرؤية السارترية ” ، سنتطرق إلي الحديث عن هيكل ضاحب لقب عميد المحللين السياسيين العرب، فكما هو معروف فإن الأستاذ هيكل يحمل دائما أجنده بداخله ، تحوي صفحاتها فكراً منظماً ، ودقيقاً يعكس رؤية شاملة ، ومعمقة لكافة القضايا السياسية والاستراتيجية ، وحتي الاجتماعية والفنية منها .. فهو مثقف موسوعي جذوره الطبقية والاجتماعية تمتد في أرض صلبة حيث الطبقة البورجوازية التي حملت أفكار التغيير في مصر منذ منتصف العشرينيات من القرن الماضي وقادت الثورات وحركات التحرير ونهضة الفكر والفن .. فكان طرحاً لحقل جميل من الأفكار والقيم والتقاليد المهنية والاجتماعية صقلتها بخبرات لم تتوافر لكثير من أبناء جيله والأجيال التي تلته أو سبقته في الصحافة المصرية والعربية ..محمد حسنين هيكل .. وجد نفسه في الأربعينيات صحفيا .. مسألة صدفة وقدرا .. إلتقط هذه الصدفة –التي كانت قدرة – وطور نفسه منذ أن كانت الصحافة ما زالت خيالاً في ذهنه .. إلي أن أصبح له خياله الخاص .. نحن أمام رجل .. يحمل ترمومترا داخله عقله .. به يقيس درجة حرارة الخبر ..! .. وإلي جانب هذا الترموتر فهو يحمل ذاكرة متينة يجددها بطريقته الفريدة التي ابتدعها .. يجددها بإعادة قراءة أوراقه .. ويسترجع الماضي والحاضر لذلك يجد المستقبل أمامه دونما أي مجهود .. هيكل .. لأنه له خياله الخاص فقد خاض الكثير من المعارك ، واختار طريقه في زمن لا يرحم فقراء الخيال .. هذا الصحفي الذي يتحرق شوقاً إلي مصدره .. لكنه أبداً لا يتنازل ، إلا إذا بحث عن مصدره واطمأن إليه .. هو جاهر للقول والحوار ومن هذا الجدال تولد الأفكار وتقفز الأخبار إلي يديه بعد أن تخيلها لتصبح حقيقة.. هذا هو هيكل صحفي الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات إلي آخر القرن العشرين.. هيكل شاهد علي العصر منذ منتصف القرن إلي نهايته ، كما كان عبد الرحمن الجبرتي شاهدا علي عصر نابليون ومحمد علي .. ولم يتأثر يوما بغيابه عن دور تنفيذي .. وهو يقول في ذلك : قلمي ما زال في يدي .. وهذا أقل شئ .. والصحفي قلم وليس الصحفي مقعداً.. إن هيكل واحد من جيل الصحفيين الأعزاء الذين صنعوا أنفسهم بأنفسهم ّّ .. لقد صنع هيكل بصيرة بين المشروع المهني والفكري والثافي .. هو من جورناله حركة إصدار يومية .. ومن احتضانه مجموعة تنبت وتنمو وتكبر وتقدم للنظام حوارا .. حوارا بين النظام والمجتمع .. إن احتضانه للمشروع الفكري والثقافي لا ليخالف النظام ولا يقف علي اليسار أو اليمين .. لكن في موقف المحاور .. كان ذلك لخدمة المشروع السياسي والوطن والأمة .. هيكل خرج بالأهرام وبالحافة المصرية خارج حدود الوطن .. وكان ساحة ووعاء تتجمع فيه الكفايات أمثال لطفي الخولي ، ولويس عوض، وتوفيق الحكيم ، ونجيب محفوظ .. المهم في النهاية أن صحافة مصر صحافة تجاوزت حدود الوطن .. هيكل أقر فكرة التجديد في شكل تطبيقي وتنفيذي وعمى ، لم يخضع للأفكار التقليدية فجاء المراسل والمندوب وجامع الأخبار ، لم يأت لصفة صاحب الصحيفة أو المؤسسة .. فكا استثناء لهذه القاعدة القديمة فلم يكن مالك مؤسسة .. لقد فهم هيكل مبكرا معايير دولية الصحيفة ، وفهم التخصص الجغرافي للصحيفة فجمع الخبراء الذين يعملون عملاً صحفياً يتمرسون فيه في شئون منطقة بعينها من العالم .
لم تكن تجربة هيكل في الصحافة المصرية والعربية مجرد تجربة صحفية كان لها تأثيرها علي أكثر من مستوي ، بل كانت تجربة في الوعي الإنساني السياسي الاجتماعي والفكري .. تأسست هذه التجربة علي الطموح اللامحدود ، والاستكشاف لآفاق المستقبل ، والبحث عن صيغ لا محدودة – أيضاً – لتجاوز الصعوبات .. إنها ” كاريزما” الحضور .. وصناعة التاريخ ، فلم يكن هيكل هو ذلك الكاتب الصحفي الكبير صاحب الخطاب السياسي والمؤثر في الأحداث ، بل وصانع الحدث السياسي – في بعض الأحيان ، بل تجاوز كل ذلك إلي البعد الجماهيري ، فلم يرتبط القارئ المصري بمقال صحفي مثلما ارتبط بمقالات هيكل سواء في الأخبار أو الأهرام وتحليلاته السياسية لأكثر من سبعين عاما من الكتابة والرؤية وانفتاح الوعي علي آفاق رحبة من التغيير والتحولات ، والثورة ، والعواصف .. لقد عاش طوال حياته مناصرا للحرية واعيا إلي مبادئها ، وصارت حياته ما بين الشد والجذب ، وما بين الاتفاق والاختلاف .. امتاز بجسارة الموقف ، وقوة الرأي ، وعمق التحليل السياسي والاجتماعي ، وهو ظاهرة مصرية تستحق الدراسة لتأثيرها علي أجيال متعددة ، رغم أننا نختلف كثيرا مع مواقفه السياسية.. .
كانت ميزة هيكل ولا تزال ، أنه الأقدر بين جيله علي صنع صحافة خصبة محترمة قوية التأثير ، تحمل رسالة واضحة إلي قارئها ، ولعله أنشأ بكتاباته مدرسة صحفية جديدة في مصر ، استطاعت أن تحفظ للمهنة رصانتها واحترامها ، وأن تحافظ في الوقت نفسه علي قدرتها ، وبراعتها في لفت الأنظار وجذب الانتباه ، وإثارة شهية القراء الذين كان يأخذهم هيكل في مقاله الأسبوعي “بصراحة” إلى قلب الحدث ليشاركوه التفكير في كل كلمة ومعني .
وعندما استعانت به أسرة تكلا ، أصحاب الأهرام قبل تنظيم الصحافة ، كي ينقذ الصحيفة العتيقة من حالة الركود والجمود التي سيطرت علي تحريرها لأكثر من عقدين من الزمان .. كان هم هيكل الأول ، أن يحافظ علي مصداقية الأهرام ، لا يخدش شيئا من رصانتها ، وأن يعطيها نفسا جديدا تتواصل به مع متغيرات عصرها لتصبح جريدة كل المصريين ، وجريدة كل الأجيال .
وبرغم أنه كان أنجب تلاميذ مدرسة أخبار اليوم التي تعتمد الإثارة والتشويق لجذب قرائها ، حرص هيكل علي أن يحافظ علي تميز الأهرام التقليدي في صدق الخبر ودقته ، لكنه أصاف إلي نزعته المحافظة ما جعل الأهرام أكثر عصرية وأكثر مصرية ، وأكثر قدرة علي التصدي لمشكلات المجتمع ، ومخاطبة قواه الجديدة ، وكانت وسيلته إلي ذلك ، أن فتح أبواب الأهرام لجيل جديدة من الصحفيين الشبان ، ساعدوه علي أن تصبح الأهرام يومها واحدة من أفضل عشر صحف عالمية لقدرتها الإخبارية المتميزة ، ومصداقيتها العالية ، وقوة تأثيرها علي الرأي العام ودوائر الحكم في داخل الوطن وخارجه ، فضلا عن دورها المهم كجسر للتواصل مع ثقافات العالم المختلفة .. ففي تلك الأيام التي يصفها البعض بالانغلاق كان ينذر أن يصدر كتاب مهم أو يذيع صوت مفكر واهد أو مؤثر في أى من أركان العالم ، دون أن تجد صداه في التو واللحظة علي صفحات الأهرام القاهرية .
كان ما يميز هيكل أيضا حرصه الشديد علي تشجيع كل قدرة صحفية شابة يحس أنها يمكن أن تضيف إلي المهنة ، كان يلتقط الموهوبين والمجدين يفتح لهم الأبواب ، ويضاعف الفرص ، وكان له مقلدون كثيرون ، يقلدون خطته ، ويقلدون طريقته في الكتابة ، ويقلدون ايماءاته وإشاراته وغير ذلك مما يسمونه اليوم لغة الجسد ، وكان هيكل يوزع تعاطفه علي هؤلاء جميعا بالقسط والحساب ، وفي كل الأحوال كان يسبغ حمايته علي جميع من يعملون معه ، يتحمل عنهم المسؤولية ، عندما يضيق الحكم ببعض كتاباتهم ، في شجاعة كبرياء أضافتا إليه مزيد من الهيبة والاحترام (.
تحية من القلب إلي أستاذ الأساتذة في ذكري وفاته الخامسة ، حبا وكرامة ، وودا خالصا ، وعرفانا بالجميل
علاوة علي أنه يعد من أشهر وأبرز الصحفيين المصريين والعرب، ومحلل سياسي مخضرم، والذي سنتذكره دائماً لشغفه وحبه للعمل الصحفي. كان هيكل يوصف بأنه مؤرخ تاريخ مصر الحديث، ووصفته جريدة The New York Times بأنه عميد المحللين السياسيين العرب ؛ وقد قال عنه أستاذنا المرحوم مكرم محمد أحمد :” تحتاج مصر إلي بضعة عقود من الزمن كي يأتيها صحفي عملاق في قامة أستاذنا الفاضل محمد حسنين هيكل ، يملك مثل قدرته وبراعته وشموخ قلمه ، ويحاكيه في نزاهة القصد والمسلك ويحظي بمثل هذه الموهبة الرائعة التي تعطيه قدرة فائقة علي رؤية أبعاد الواقع واستبصار غياهب المستقبل ، في سلاسة منقطعة النظير ، تزينها مهارة فذة في رسم الصور ونحت الكلمات ، وصك التعابير .. ولا أظن أن صحفيا مصريا علي امتداد تاريخ هذه المهنة امتلك كل هذه الأدوات التي جعلت من هيكل الصحفي روائيا مبدعا ، تنصاع له كل فنون الحكي ، ومصورا فنانا ، يحيل قلمه متي شاء إلي فرشاه مبدعة ، ترسم ظلال وأضواء وألوان أكثر الصور والمواقف تعقيدا ، ومحللا بارعا ، يتابع عن كثب تطورات عالمنا ، يصعب أن تفاجئه بخبر أو معلومة أو فكرة ، ولغويا ضليعا ، يرقي بفن الكتابة السياسية إلي حدود الشعر (2)
كما قال عنه فهمي هويدي، الكاتب والصحفي الشهير، “طوال سنوات عمله الحافلة والمليئة بالأحداث الصاخبة، كان هيكل يرى نفسه أولاً وقبل كل شيء صحفياً. فقد اضطلع بمناصب أخرى في لحظات معينة من التاريخ، وكان مصدراً موسوعياً من المعلومات، وكاتباً ومحللاً سياسيا ًعظيماً، إلا أنه رأى نفسه صحفي في المقام الأول، وكان كذلك في كل يوم من حياته حتى اليوم الذي أصبح فيه مريضاً وتعباً على الاستمرار .
والحقيقة فإنني أؤيد كل ما قاله أستاذنا مكرك محمد أحمد ، وكذلك ما قاله الأستاذ فهمي هويدي ، وأضيف بأنه سيظل اسم الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل اللامع مثار اعجاب الملايين من القراء في مصر والعالم العربي ، فهو كما قال الأستاذ أبو السعود إبراهيم :” صاحب أسلوب متميز ، وتاريخ حافل في الصحافة العربية ، ومؤلفاته مؤثقة بالوثائق والمستندات تؤكد قدرته الفائقة علي التحليل . كلماته توزن بالذهب في الصحف الأجنبية .. ومقالاته وأحاديثه تصدر في كبريات الصحف في العالم .. فهو بحق أحد عمالقة الصحافة المصرية والعربية .. إنه أمة في رجل .. الأستاذ محمد حسنين هيكل نجم ساطع في سماء الصحافة المصرية والعالمية .. وصل إلي مكانته بجهده وعرقه ، وبذكائه استطاع أن يقف وسط العمالقة .
ولد محمد حسنين هيكل في 23 سبتمبر عام 1923 بقرية باسوس بمحافظة القليوبية، وبدأ وبدأ الدراسة بالمراحل المتصلة ثم اتجه إلى الصحافة فى وقت مبكر حيث التحق بجريدة “الإيجيبشيان جازيت” حيث عمل كمحرر تحت التمرين بقسم الحوادث ثم انتقل إلى القسم الألماني، شارك في تغطية بعض المعارك التي خلفتها الحرب العالمية الثانية، ثم التحق بمجلة آخر ساعة عام 1945 كمحرر أيضا واستمر في العمل بهذه المجلة حتى أصبحت تحت ملكية جريدة أخبار اليوم .
وخلال هذه الفترة عمل هيكل كمراسل متجول لجريدة أخبار اليوم لينقل الأحداث الجارية من كل مكان بالعالم سواء في الشرق الأوسط أو الشرق الأقصى حتى أنه سافر إلى كوريا وإلى أفريقيا وحتى البلقان، واستقر بمصر عام 1951 حيث تولى منصب رئيس تحرير مجلة آخر ساعة وفي نفس الوقت مدير تحرير جريدة أخبار اليوم واستطاع من خلال وظيفته أن يتلمس الواقع السياسي الجاري في مصر آنذاك، ثم عين رئيس تحرير جريدة الأهرام لمدة 17 عاما وكان له عمود أسبوعي خاص به تحت عنوان بصراحة حيث استطاع أن يكتب في هذا العمود لعام 1994
والخطوة الأهم في حياة الكاتب الكبير هيكل كانت حين وقع عليه الاختيار ليذهب للعلمين لتغطية وقائع الحرب العالمية الثانية، ثم سافر إلى مالطا، ثم إلى باريس، والتقى السيدة فاطمة اليوسف صاحبة مجلة (روز اليوسف)، التي قررت ضمّه إلى مجلتها عام 1944، ثم تعرف على محمد التابعي، لينقل إلى صفحات (آخر ساعة) ليصبح هيكل بعد فترة وجيزة، رئيسا لتحريرلها ولم يكن يتجاوز 29 من عمره، ثم تولى رئاسة تحرير الأهرام لعدة سنوات، وبعدها اتجه لتأليف الكتب، ومحاورة زعماء العالم، وجرى ترجمة كتبه إلى 13 لغة .
وقد شغل هيكل منصب رئيس تحرير جريدة الأهرام من عام 1957 وحتى عام 1964، وكان كاتباً لعمود أسبوعي بعنوان “بصراحة”، والذي كان السبب الرئيسي في وصف جريدة الأهرام “جريدة نيويورك تايمز العالم العربي” تحت قيادته (وفقاً للموسوعة البريطانية Encyclopedia Britannica). كما أسس هيكل مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية. وفي بداية مشواره الوظيفي، اشتغل هيكل بجريدة الإيجيبشيان جازيت ومجلة روز اليوسف، ثم أصبح محرر بمجلة آخر ساعة وجريدة الأخبار اليومية .
كان هيكل كاتم أسرار الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. هذا، وقد قام هيكل بتأليف 40 كتاب سرد فيها أحداث تاريخية كان قد عاصرها بنفسه، مثل عبد الناصر: وثائق القاهرة Nasser: The Cairo Documents 1972 ، والطريق إلى رمضان The Road to Ramadan 1975 ، وأبو الهول والقوميسير Sphinx and Commissar 1978 ، وخريف الغضب Autumn of Fury 1983 . كما كان هيكل عضواً باللجنة المركزية بالاتحاد الاشتراكي العربي (1968 – 1974)، ووزير الإرشاد القومي (أبريل – أكتوبر 1970) .
وبعد وفاة عبد الناصر في عام 1970، ظل هيكل رئيساً لتحرير جريدة الأهرام حتى عام 1974، ثم أصبح صحفياً حراً بعد ذلك. وفي عام 2007، قدم سلسلة من المحاضرات حول الأحداث العالمية بعنوان “مع هيكل” على قناة الجزيرة القطرية.
وفى عهد الرئيس مبارك وفى مقابلة مع روبرت فيسك، انتقد بشدة الرئيس المصري السابق حسنى مبارك، قائلا: «إن مبارك يعيش في عالم خيالي في شرم الشيخ» ووصفه في موضع آخر بأنه ليس لديه حنكة سياسية، وقد اعتزل هيكل الكتابة المنتظمة والعمل الصحفي في ٢٣ سبتمبر ٢٠٠٣ بعد أن أتم عامه الثمانين ومع ذلك فإنه استمر يساهم في إلقاء الضوء بالتحليل والدراسة على تاريخ العرب المعاصر الوثيق الصلة بالواقع الراهن مستخدما منبرا جديدا غير الصحف والكتب وهو التليفزيون إلى أن توفي في١٧ فبراير ٢٠١٦ .
ومع رحيل الصحفي المصري محمد حسنين هيكل طويت صفحة شخصية سياسية وصحفية عربية وثقافية مهمة ، استطاعت أن تلعب دوراً بارزاً في التحولات الوطنية والدولية التي شهدتها المنطقة العربية ، منذ خمسينيات القرن الماضي وإلي الآن . وفي الحقيقة ، فإن رحيل هيكل لا يعني بتاتاً أن سيرته قد طويت ، ولا أن دوره كمثقف قريب من السلطة أو بعيد عنها ، ما يعني أن “ملف هيكل” بدأ بالانفتاح وإثارة الجدل والنقاش من جديد كما كان قبل ، وربما أكثر .
والحقيقة أيضا ، إن أهم التساؤلات التي يمكن أن تطرح اليوم بعد مسيرة هيكل المتشعبة كصحفي، وسياسي ، وشاهد علي العصؤ ، إن لم نقل مؤرخاً ،وكاتب ، ومفكر هي : إلي أي درجة كان هيكل يمثل نفسه كمثقف في السلطة ؟ أو ربما هل كان يمثل نوعاً جديداَ من المثقفين الذين لا تنطبق عليهم تعريفات المثقف التقليدية ليكون مثقفاً ” من” السلطة؛ بمعني أنه مثقف ” شارك ” في صناعة السلطة ، ومن ثم كان لا بد من التعبير والدفاع عنها بصفته شريكاً وليس تابعاً ؟ ويبقي السؤال الأهم الذي كان مطروحاً مع أندريه جيد ، ومالرو ، وسارتر ، ويقينا هيكل :” هل الكاتب مثقف؟ .
وقد أجاب جان بول سارتر علي هذا السؤال الذي طرحه في مؤتمر اليابان في عام 1965، قائلاً :” المثقف هو مثقف بالصدفة ، منتج من التاريخ ، والاجتماع ، بينما الكاتب منتج من القراءة ، هذا جوهره (مفهوم مفاجئ من فم سارتر) : أعماله ” تأكيد علي القيمة المطلقة للحياة المعاشة ، وملحة علي حرية هدفها الآخرين” .
إذن ، للإجابة علي التساؤلات السابقة علي هدى ” الرؤية السارترية ” ، سنتطرق إلي الحديث عن هيكل ضاحب لقب عميد المحللين السياسيين العرب، فكما هو معروف فإن الأستاذ هيكل يحمل دائما أجنده بداخله ، تحوي صفحاتها فكراً منظماً ، ودقيقاً يعكس رؤية شاملة ، ومعمقة لكافة القضايا السياسية والاستراتيجية ، وحتي الاجتماعية والفنية منها .. فهو مثقف موسوعي جذوره الطبقية والاجتماعية تمتد في أرض صلبة حيث الطبقة البورجوازية التي حملت أفكار التغيير في مصر منذ منتصف العشرينيات من القرن الماضي وقادت الثورات وحركات التحرير ونهضة الفكر والفن .. فكان طرحاً لحقل جميل من الأفكار والقيم والتقاليد المهنية والاجتماعية صقلتها بخبرات لم تتوافر لكثير من أبناء جيله والأجيال التي تلته أو سبقته في الصحافة المصرية والعربية ..محمد حسنين هيكل .. وجد نفسه في الأربعينيات صحفيا .. مسألة صدفة وقدرا .. إلتقط هذه الصدفة –التي كانت قدرة – وطور نفسه منذ أن كانت الصحافة ما زالت خيالاً في ذهنه .. إلي أن أصبح له خياله الخاص .. نحن أمام رجل .. يحمل ترمومترا داخله عقله .. به يقيس درجة حرارة الخبر ..! .. وإلي جانب هذا الترموتر فهو يحمل ذاكرة متينة يجددها بطريقته الفريدة التي ابتدعها .. يجددها بإعادة قراءة أوراقه .. ويسترجع الماضي والحاضر لذلك يجد المستقبل أمامه دونما أي مجهود .. هيكل .. لأنه له خياله الخاص فقد خاض الكثير من المعارك ، واختار طريقه في زمن لا يرحم فقراء الخيال .. هذا الصحفي الذي يتحرق شوقاً إلي مصدره .. لكنه أبداً لا يتنازل ، إلا إذا بحث عن مصدره واطمأن إليه .. هو جاهر للقول والحوار ومن هذا الجدال تولد الأفكار وتقفز الأخبار إلي يديه بعد أن تخيلها لتصبح حقيقة.. هذا هو هيكل صحفي الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات إلي آخر القرن العشرين.. هيكل شاهد علي العصر منذ منتصف القرن إلي نهايته ، كما كان عبد الرحمن الجبرتي شاهدا علي عصر نابليون ومحمد علي .. ولم يتأثر يوما بغيابه عن دور تنفيذي .. وهو يقول في ذلك : قلمي ما زال في يدي .. وهذا أقل شئ .. والصحفي قلم وليس الصحفي مقعداً.. إن هيكل واحد من جيل الصحفيين الأعزاء الذين صنعوا أنفسهم بأنفسهم ّّ .. لقد صنع هيكل بصيرة بين المشروع المهني والفكري والثافي .. هو من جورناله حركة إصدار يومية .. ومن احتضانه مجموعة تنبت وتنمو وتكبر وتقدم للنظام حوارا .. حوارا بين النظام والمجتمع .. إن احتضانه للمشروع الفكري والثقافي لا ليخالف النظام ولا يقف علي اليسار أو اليمين .. لكن في موقف المحاور .. كان ذلك لخدمة المشروع السياسي والوطن والأمة .. هيكل خرج بالأهرام وبالحافة المصرية خارج حدود الوطن .. وكان ساحة ووعاء تتجمع فيه الكفايات أمثال لطفي الخولي ، ولويس عوض، وتوفيق الحكيم ، ونجيب محفوظ .. المهم في النهاية أن صحافة مصر صحافة تجاوزت حدود الوطن .. هيكل أقر فكرة التجديد في شكل تطبيقي وتنفيذي وعمى ، لم يخضع للأفكار التقليدية فجاء المراسل والمندوب وجامع الأخبار ، لم يأت لصفة صاحب الصحيفة أو المؤسسة .. فكا استثناء لهذه القاعدة القديمة فلم يكن مالك مؤسسة .. لقد فهم هيكل مبكرا معايير دولية الصحيفة ، وفهم التخصص الجغرافي للصحيفة فجمع الخبراء الذين يعملون عملاً صحفياً يتمرسون فيه في شئون منطقة بعينها من العالم .
لم تكن تجربة هيكل في الصحافة المصرية والعربية مجرد تجربة صحفية كان لها تأثيرها علي أكثر من مستوي ، بل كانت تجربة في الوعي الإنساني السياسي الاجتماعي والفكري .. تأسست هذه التجربة علي الطموح اللامحدود ، والاستكشاف لآفاق المستقبل ، والبحث عن صيغ لا محدودة – أيضاً – لتجاوز الصعوبات .. إنها ” كاريزما” الحضور .. وصناعة التاريخ ، فلم يكن هيكل هو ذلك الكاتب الصحفي الكبير صاحب الخطاب السياسي والمؤثر في الأحداث ، بل وصانع الحدث السياسي – في بعض الأحيان ، بل تجاوز كل ذلك إلي البعد الجماهيري ، فلم يرتبط القارئ المصري بمقال صحفي مثلما ارتبط بمقالات هيكل سواء في الأخبار أو الأهرام وتحليلاته السياسية لأكثر من سبعين عاما من الكتابة والرؤية وانفتاح الوعي علي آفاق رحبة من التغيير والتحولات ، والثورة ، والعواصف .. لقد عاش طوال حياته مناصرا للحرية واعيا إلي مبادئها ، وصارت حياته ما بين الشد والجذب ، وما بين الاتفاق والاختلاف .. امتاز بجسارة الموقف ، وقوة الرأي ، وعمق التحليل السياسي والاجتماعي ، وهو ظاهرة مصرية تستحق الدراسة لتأثيرها علي أجيال متعددة ، رغم أننا نختلف كثيرا مع مواقفه السياسية.. .
كانت ميزة هيكل ولا تزال ، أنه الأقدر بين جيله علي صنع صحافة خصبة محترمة قوية التأثير ، تحمل رسالة واضحة إلي قارئها ، ولعله أنشأ بكتاباته مدرسة صحفية جديدة في مصر ، استطاعت أن تحفظ للمهنة رصانتها واحترامها ، وأن تحافظ في الوقت نفسه علي قدرتها ، وبراعتها في لفت الأنظار وجذب الانتباه ، وإثارة شهية القراء الذين كان يأخذهم هيكل في مقاله الأسبوعي “بصراحة” إلى قلب الحدث ليشاركوه التفكير في كل كلمة ومعني .
وعندما استعانت به أسرة تكلا ، أصحاب الأهرام قبل تنظيم الصحافة ، كي ينقذ الصحيفة العتيقة من حالة الركود والجمود التي سيطرت علي تحريرها لأكثر من عقدين من الزمان .. كان هم هيكل الأول ، أن يحافظ علي مصداقية الأهرام ، لا يخدش شيئا من رصانتها ، وأن يعطيها نفسا جديدا تتواصل به مع متغيرات عصرها لتصبح جريدة كل المصريين ، وجريدة كل الأجيال .
وبرغم أنه كان أنجب تلاميذ مدرسة أخبار اليوم التي تعتمد الإثارة والتشويق لجذب قرائها ، حرص هيكل علي أن يحافظ علي تميز الأهرام التقليدي في صدق الخبر ودقته ، لكنه أصاف إلي نزعته المحافظة ما جعل الأهرام أكثر عصرية وأكثر مصرية ، وأكثر قدرة علي التصدي لمشكلات المجتمع ، ومخاطبة قواه الجديدة ، وكانت وسيلته إلي ذلك ، أن فتح أبواب الأهرام لجيل جديدة من الصحفيين الشبان ، ساعدوه علي أن تصبح الأهرام يومها واحدة من أفضل عشر صحف عالمية لقدرتها الإخبارية المتميزة ، ومصداقيتها العالية ، وقوة تأثيرها علي الرأي العام ودوائر الحكم في داخل الوطن وخارجه ، فضلا عن دورها المهم كجسر للتواصل مع ثقافات العالم المختلفة .. ففي تلك الأيام التي يصفها البعض بالانغلاق كان ينذر أن يصدر كتاب مهم أو يذيع صوت مفكر واهد أو مؤثر في أى من أركان العالم ، دون أن تجد صداه في التو واللحظة علي صفحات الأهرام القاهرية .
كان ما يميز هيكل أيضا حرصه الشديد علي تشجيع كل قدرة صحفية شابة يحس أنها يمكن أن تضيف إلي المهنة ، كان يلتقط الموهوبين والمجدين يفتح لهم الأبواب ، ويضاعف الفرص ، وكان له مقلدون كثيرون ، يقلدون خطته ، ويقلدون طريقته في الكتابة ، ويقلدون ايماءاته وإشاراته وغير ذلك مما يسمونه اليوم لغة الجسد ، وكان هيكل يوزع تعاطفه علي هؤلاء جميعا بالقسط والحساب ، وفي كل الأحوال كان يسبغ حمايته علي جميع من يعملون معه ، يتحمل عنهم المسؤولية ، عندما يضيق الحكم ببعض كتاباتهم ، في شجاعة كبرياء أضافتا إليه مزيد من الهيبة والاحترام (.
تحية من القلب إلي أستاذ الأساتذة في ذكري وفاته الخامسة ، حبا وكرامة ، وودا خالصا ، وعرفانا بالجميل