د. محمود محمد علي
يعد عبد الفتاح الديدى أحد وجوه النخبة المستنيرة الأصيلة الحقيقية في الفكر المصري المعاصر ، حيث كان رحمه الله يتسم بذكاء خارق، ومقدرة ظاهرة وكامنة، أتاحت له في بعض الأحيان العمل على مدى أربع وعشرين ساعة متواصلة من دون كلل، فقد رحمه الله كان حيوياً ونشيطاً في عمله، وهو إنسان ذو قدرات عالية لا ينام أكثر من خمس ساعات في الليل، عنيد، لا يحده سقف في التطلع والرقي بعمله، وفي الوقت نفسه فهو موصوف أيضاً بأنه «جنتلمان» ومنطقي لا يستثار، ومثابر من الطراز الأول حيث يملك أفكاراً وعلى الدوام كان في تحد لأي شيء يحده ، وهو حسن المعشر وسريع النكتة كأغلب المصريين ، علاوة على البشاشة والتواضع والابتسام والتفاؤل ؛ كان محياه ودودا مسالما يخلو من جهامة المثقفين وتعاليهم المقيت، وتقطيبهم الدائم لإضفاء الجدية والرصانة على ما يقولون!
ولهذا كان ذا قدرة فذة على استخلاص الأفكار والملامح المنهجية الأساسية فىرؤية هذا المفكر أو ذاك الناقد أو هذا الباحث.. إلخ. كتابته دسمة مكتنزة بالمعرفة والتحليل والعمق، وفيها امتزاج الذاتي بالموضوعي دون تعنت أو افتعال، وفيها المعلومات والإشارات والإحالات، وفيها النظرات النقدية والاختلاف في الرأي وإبداء الرأي باستقلالية ونزاهة، فقد كان يهرب دائما من الأسلوب المقعر، ويلجأ إلى تبسيط اعقد واصعب المشكلات، مؤمنا بأن الفكرة الواضحة في ذهن صاحبها، يمكنه أن يبسطها لمستمعيه وقُرَّائه دون تكلف أو حذلقة أو بجمل وتعبيرات معقدة، إذ كان يريد أن يصل الوعي إلى الجميع باعتباره ليس حكرا على المثقفين وحدهم. هكذا كان بسيطا ومتحيزا للبسطاء والمهمشين، الذين شكَّلوا بوصلة تفكيره واهتماماته.
ولهذا كان ذا قدرة فذة على استخلاص الأفكار والملامح المنهجية الأساسية فىرؤية هذا المفكر أو ذاك الناقد أو هذا الباحث.. إلخ. كتابته دسمة مكتنزة بالمعرفة والتحليل والعمق، وفيها امتزاج الذاتي بالموضوعي دون تعنت أو افتعال، وفيها المعلومات والإشارات والإحالات، وفيها النظرات النقدية والاختلاف في الرأي وإبداء الرأي باستقلالية ونزاهة، فقد كان يهرب دائما من الأسلوب المقعر، ويلجأ إلى تبسيط اعقد واصعب المشكلات، مؤمنا بأن الفكرة الواضحة في ذهن صاحبها، يمكنه أن يبسطها لمستمعيه وقُرَّائه دون تكلف أو حذلقة أو بجمل وتعبيرات معقدة، إذ كان يريد أن يصل الوعي إلى الجميع باعتباره ليس حكرا على المثقفين وحدهم. هكذا كان بسيطا ومتحيزا للبسطاء والمهمشين، الذين شكَّلوا بوصلة تفكيره واهتماماته.
ولذلك فهو يعد مثال فذ لما يمكن أن نقول عنه «المثقف العضوى» بالمفهوم الجرامشى؛ المثقف المهموم بقضايا الوطن وأسئلة الحداثة والتقدم والنهوض والخروج من نفق العصور المظلمة إلى آفاق العصور الحديثة. المثقف الذى سعى طوال عمره إلى ترسيخ معارفه الإنسانية والفلسفية، وصقل تكوينه الفكري والنقدي، وبهذا المعنى هو تلميذ نجيب من تلاميذ العقاد الذين قرروا بشجاعة مواجهة الأستاذ والتمرد عليه؛ فكريا ونقديا.
والدكتور عبد الفتاح الديدى من مواليد السويس ، حيث ولد في الثامن من مايو عام 1926 ، ثم التحق بمدرسة السويس الابتدائية حتى عام 1941 حيث انتقل خلال تلك الفترة إلى القاهرة بعد أن هاجرت الأسرة بسبب الغارات الجوية التي تعرضت لها محافظة السويس في الحرب العالمية الثانية . استقرت أسرته في شارع الملك ( مصر والسودان حاليا ) في القاهرة دخل مرتين الشعبة الثانوية وحصل على الشهادة التوجيهية عام 1944.
ثم بعد ذلك التحق بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول ( جامعة القاهرة الآن ) سنة 1949 ثم سافر إلى فرنسا عام 1952 وحتي 1956حيث حصل علي دبلوم دراسات العليا(منطق) بجامعة السوربون سنة 1953 ثم حصل علي شهادة” الأجرجاسيون” من جامعة السوربون بفرنسا (وهي رخصة تدريس الفلسفة بجامعة السوربون) سنة 1954 وانتقل “الديدي” إلى ألمانيا من عام 1956 إلي عام 1958 للدراسة والعلم حيث قضي الدكتور عبد الفتاح الديدي بين الخمسينات والستينات من القرن نحوا من ست سنوات بين ألمانيا وفرنسا يدارس الفلسفة والمنطق، وكانت رحلته الطويلة الي الغرب ؛ بالإضافة الي ملازمته لأستاذه “العقاد” أهم أعمدة بنيانه الفكري حيث كان “الديدي” تلميذا من أقرب تلاميذ عباس محمود العقاد والذي كان عونا له علي اتقانه اللغتين الألمانية والفرنسية ،ناهيك عن تمكن “الديدي” من اللغة الانجليزية ،التي كان يتسيدها أستاذه العقاد ليعود “الديدي” إلي مصر عام1959 ويحصل علي ماجستير في المنطق من جامعة القاهرة 1967وكان موضوع الماجستير بعنوان ” النفسانية المنطقية عند جون ستيوارت مل” بينما حصل علي الدكتوراه في “المنطق في مذهب برادلي” من جامعة القاهرة سنة 1971.
كانت حياة “الديدي” العلمية والعملية حافلة ولأنه كان تلميذا من أقرب تلاميذ عباس محمود العقاد فقد نشر حوله عدة كتب منها” النقد والجمال عند العقاد “،و”عبقرية العقاد” ،و”الفلسفة الاجتماعية عند العقاد”. وقد قام بالتدريس في العديد من جامعات ألمانية وفرنسا وكان أستاذا بجامعة وهران بالجزائر وكلك بجامعة الجزائر بالجزائر. كما قام بالتدريس بالجامعات المصرية وبكلية الفنون الجميلة بالقاهرة والإسكندرية وكذلك انتدب للتدريس بكلية الآداب جامعة المنيا والإسكندرية وبكلية الفنون التطبيقية بالقاهرة وبجامعة الأزهر.
له العديد من المؤلفات ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : عبقرية العقاد، والخيال الحركي، والأسس المعنوية للأدب، والاتجاهات المعاصرة في الفلسفة، وفلسفة سارتر، والقضايا المعاصرة في الفلسفة، وهيجل وفلسفة هيجل، والنقد والجمال عند العقاد ، والفلسفة الاجتماعية عند العقاد، والنفسانية المنطقية عند جون ستيوارت مل، وأدبنا والاتجاهات العالمية، والسلوك والإدراك عند بياجيه، وفلسفة الجمال وعلم الجمال، وعيسى والإسلام الحديث في نظر العقاد (مؤلف باللغة الألمانية1957)، وينابيع الفكر المصري المعاصر.. الخ.
كما قام الديدي بترجمة العديد من الكتب مثل: مسرحية “الجنوب” لجوليان جرين الترجمة العربية، وأوعية الألم مجموعة قصصية، وامرأة في الثلاثين ترجمة عربية عن بلزاك، ومقدمة في المنطق المركزي وأوليات المنطق الرمزي، والمادية والثورة. كما عمل بإدارة المجلات وساهم في العمل بمجلة الثقافة ومجلة الرسالة ومجلة المجلة.
وقد الديدي شغل عدة وظائف منها خبير فكر وعلوم اجتماعية بمكتب وزير الثقافة ومدير لإدارة الترجمة لمكتب وزير الثقافة ومدير عام مركز المعلومات مكتب الوزير بوزارة الثقافة ومدير عام لشئون أكاديمية روما. هذا فضلا عن عضويته بلجنة الترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة كما كان عضوا باتحاد الكتاب.
وفي تلك الدراسات قدم لنا الدكتور الديدي منهج عقلاني تكاملي متفتح ورؤية فلسفية ملتزمة : تؤكد التسامح ، والحوار ، والتعددية ، وتفسح المجال للآخر ، هو بشهادة الكثيرين يمثل بأنه يمتلك عقل مفكر وقلب طفل ،كانت أحاسيسه ومشاعره بسيطة ،نبيلة،لا يعرف كيدا ولا مينا ولا خداعا ،بل هي نفس صافية رقراقة نفس شابة ،” لا تشيه بشيبه ” كما وصفه بأنه صاحب نفس طيبة ،حسنة النية، سليمة الطوية وكان يستدل علي ذلك بأن “الديدي”، وكان يري أنه ليس هناك سبب للخصومة بين مدرسة العقاد ومدرسة الشعر الجديد “.كما وصف الاستاذ الدكتور محمد ابراهيم الفيومي بأنه “عالم أديب مفكر” ملأ الساحة الثقافية من فيض فكره الفلسفي فكتب في المنطق الحديث والمنطق الرمزي ،والنفسانية المنطقية وفلسفة الجمال وينابيع الفكر المصري المعاصر وترجم كثيرا ودرس بالسوربون وله العديد والعديد من المقالات الفكرية .
وهكذا كتب كثيرون عن “الديدي” وأعدت رسالة ماجستير في فكر “الديدي” بعنوان: “فلسفة التربية عند عبدالفتاح الديدي” للباحث “علي محمد يوسف الشيشي” حيث أوضحت الدراسة أن عبد الفتاح الديدي رغم أنه فيلسوف ومفكر إلا أنه رجل تربية حتي وان لم يكتب مباشرة في التربية.
توفي “الديدي” بعد حياة علمية وعملية ثرية في الرابع والعشرين من رمضان 1419هجريا الموافق 12يناير 1999 عن عمر يناهز الثانية والسبعين بعد صراع مع المرض الخبيث ومن قبله تعرض لحادث سيارة أليم أثناء عبوره الطريق عند منزله في مصر الجديدة فقد علي أثره البصر إلا أنه لم يبخل بعطاءه العلمي والأدبي كما لم يفقد ابتسامته ابدا حيث كان محبا لأسرته ولأهله وتلامذته وزملاءه وهو بحق ينطبق عليه مصطلح “شهيد المعرفة” الذي صكه “الديدي” نفسه في حديثه عن اساتذته العظام والذي بحق ينطبق عليه.
رحم الله الدكتور عبد الفتاح الديدي ، الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا .. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.
د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط