رؤية نقدية : تقديم فر ج أحمد فرج
هل نعتبر خيط من حرير من الأدب التسائي للأديبة اللبنانية دكتورة ألحان نجيب تسرد فيه جواني كثيرة للمرأة التي قال فيها أحد الشعراء :
كانت فتاة جميلة فائقة الحسن، فاتكة اللحظات، رائعة القسمات، لم تطلع الشمس على أنضر منها وجهًا ولا أملد عودًا، ولا أشد إغراء وفتنة، يصدق فيها قول الشاعر:
ومليح قال صِفْني
أنتَ في القول فصيح
قلت قولًا باختصار
كل ما فيك مليح
الأدب النسائي ويطلق عليه أيضا أدب الأنثى أو أدب المرأة وهو يشير إلى الأدب الذي يكون النص الإبداعي فيه مرتبطا بطرح قضية المرأة والدفاع عن حقوقها دون أن يكون الكاتب إمرأة بالضرورة. فيعرفه بذلك البعض على أنه «الأدب المرتبط بحركة نصرة المرأة وحريتها وصراعها الطويل التاريخي للمساواة بالرجل
بينما يعتبره البعض الآخر «مصطلح يستشف منه افتراض جوهر محدد لتلك الكتابة بتمايز بينها وبين كتابة الرجل في الوقت الذي يرفض الكثيرون فيه إحتمال وجود كتابة مغايرة تنجزها المرأة العربية استيحاء لذاتها وشروطها ووضعها المقهور
وغطاءة تحت ظلام عباية العادات والتقاليد الموروثة ، لم يتفق أغلب النقاد والأدباء على ماهية الأدب النسوي حيث انقسمت الآراء بين مؤيد ومعارض للمصطلح، ويعلل معارضو استخدام مصطلح الأدب النسوي رأيهم في أنه لا يجوز تقسيم الأدب إلى نسوي وغير نسوي، لأن الأدب يقدم مواضيع تلامس المجتمع بأكمله ولا يجوز تجزئته، ومن مناصري هذا الرأي الأديبة السورية غادة السمان، والروائية الجزائرية أحلام مستغانمي. بينما يرى المدافعون عن المصطلح أن المرأة تتمتع بخصوصة في الكتابة تجعل من الضروري بمكان تصنيف كتابتها في مجال مختلف عن الكتابة الذكورية تتحدد على ضوئه القيمة الابداعية للنص النسوي.
وصف أعرابي إمرأة فقال: «حسناء عربيدة، طويلة فارعة، سامقة القوام، حلوة يجري ماء النضارة والشباب في محيَّاها، تتهادى مستعلية برأسها في تيهٍ ودلال، وتتمايل في رشاقة وزهو كأنها غصنُ بانٍ يُحرِّكه النسيم العليل، ذات جسم رطب رخص، تغنِّي فوقه الطيور، ووجه باسم صبوح، وعينَين سوداوَين تشعان سهامًا تفتك بالقلوب، ووجنتَين انتهبتا من الورد حمرته، وشفتَين كالعناب الحلو المتبل بالرضاب، وأسنان كاللؤلؤ، وجِيد أتلَع، وصدر كعبَ ثدياه، فكانت ملتقى أشعة العيون وشركًا لاقتناص القلوب والعقول.»
وقال آخَر: «امرأة وضيئة قسيمة وذات شعر فاحم بسط، وعيون ساحرة ونظرات نفَّاذة آسِرة، وجيد أتلَع أغرَّ، وصدر ناهِد رطب، وقوام رخص بض.»
تقول كاهنة عياس محامية تونسية برأيي تكمن في أن المرأة الكاتبة والأديبة تستخدم اللّغة أداةً للإبداع، أي لغايات تعبيرية وفنيّة، لتتمكّن بالدرجة الأولى من تجاوز منطقة الصمت التي استقرت فيها مدّة قرون، لا بل فضّل المجتمع والسلطة أن يبقيها عالقةً فيها، وبالتالي، من الإفصاح عن رؤيتها للعالم والآخر والذات وعدم الاكتفاء بدور الناقلة للقيم الثقافية من خلال الأدوار المتوقّعة منها كأمّ أو مربيّة، فتضطلع عبر اللغة والإبداع بدورها كفاعلة ومبدعة ومتملكة لناصية اللغة، أي أداة النقل والتعبير، ما قد يفسّر لنا جزءاً من الأسباب التي جعلت الأدب واللغة من ورائه (والمسرح بدرجة أقل تداولاً) يختصان بهذه التسمية دون السينما والفن التشكيلي والنحت وغيرها من الفنون. فالصورة، وإن كانت مُحمّلة بالرموز القويّة، تنقل حدثاً أو مشهداً، ويبقى أثرها على النفس وتشكّلها وامتدادها ذات آثار محدودة بالمقارنة مع اللغة التي تمتلك قدرة هائلة على نقل القيم والمعاني داخل ثقافة ما وإحداث قطيعة مع سياسة الصمت المفروضة على شرائح معيّنة من المجتمع.
قراءة في “خيطٌ من الحرير. مجموعة قصصية.. وتأملات فكرية”
للكاتبة ألحان نجيب الجردي ليس من السهل مُطلقًا أن تكتب عن عملٍ، وأنت لا تملك هذه المساحة الشاسعة من التأويل، أو حتى الشيء اليسير من حرية الفهم الذاتي؛ فكل شيءٍ موجود بداخل هذا الكتاب، النصوص الأدبية، والأفكار الفلسفية، والإشارات لتلك الحضارات الغابرة؛ والتي تحمل في طياتها كل فكر إنساني ومعرفي، والتأويلات وحدود الأفكار القابعة داخل تلك النصوص، فكل شيء مُعد سلفًا للقارئ وما عليه إلا أن ينهل من هذه الأفكار، ويعيد قراءة هذه النصوص بقلبه هو، ويلقي بظلالها على حياته وأفكاره الخاصة، وكأنها خيوط تتشابك وتلتحم، ما بين الكاتبة والقارئ. وهذا ما نقرأه مع أول صفحات الكتاب، حيث يحدث هذا المزج الانساني بكل ما يحمل من معنى، ولا نملك في هذه الحالة إلا الشعور بالمحبة في أسمى معانيها، حيث نعيش حيوات أخرى، ونستلهم قصصها، ونعيش ما تشعر به من سعادة وألم؛ وذلك من خلال التكامل الإنساني والوجودي عن طريق الكتابة والتأمل والقراءة، حيث يتحول الكتاب إلى كائن حي، ويتحول فعل القراءة إلى فعل وجودي يتأمل التجربة وتحققها في الذات الإنسانية من خلال التداخل والتمازج وكأنه خيط مشترك من الحرير. ومن ناحية أخرى، يفرض علينا العنوان الفرعي للكتاب “مجموعة قصصية… وتأملات فكرية”؛ النظر إلى الكتاب من زاويتين مختلفتين، زاوية الشكل وزاوية المضمون، من حيث أنه بناء متكامل من الإبداع القصصي، والتأملات الفكرية التي تطرح الكثير من الأفكار الحياتية والفلسفية.
أولاـ مستوى الشكل: على الرغم من أن مفهوم الشكل قد اكتسى معنىً جديدًا، فلم يعد غشاء أو هيكل خارجي وفقط، وإنما وحدة ديناميكية ملموسة، لها معنى في ذاتها خارج كل عنصر أو عمل إبداعي إضافي؛ فأنه لا يمكن عمليًا فصل الشكل أو البناء الكامل للكتاب عن الموضوع الكليّ، وعن الأفكار المطروحة عند التلقي، لأن الموضوع العام للكتاب والهدف منه لا يصل إلينا بمعزل عن الشكل، ولقد أقر المفكر الروسي “شلوفسكي” الشكلاني نفسه بأنه يجب أن يستشف عبر الشكل شيء من المضمون، ومع ذلك فإنه لا مناص من الفصل بينهما على مستوى هذه القراءة، فنحن نجد داخل الكتاب تقسيمات وعناوين تسير بنا إلى الهدف والغرض المنشود من فعل الكتابة نفسه. فنحن نصل إلى الفكرة عن طريق العمل الأدبي أو القصة والتي كُتبت خصيصًا لتكون معبرة ومرشدة لهذه الفكرة، وكأن الكاتبة تقتطع من الحياة الإنسانية والواقع المُعاش قصتها لتستخلص هذه العبرة وهذه الفكرة في سياق أدبي إنساني، وعقل يفكر ويستخلص من هذا الادب رؤاه وأفكاره الخاصة.
ثانيًاـ مستوى المضمون: ما يشفع لي في هذه القراءة؛ سيري في ظل هذا الكتاب، وعلى خُطى كاتبته الدكتورة ” ألحان نجيب الجردي”، لا لشيء سوى إلقاء الضوء على هذه الظلال، وتحويلها من الهامش إلى المتن، وسبر أغوار هذا الفكر الإنساني، أو بالأحرى هذا الفكر الوجودي. ليس بمعناه الفلسفي البحت، والذي قال به الفيلسوف الفرنسي “جان بول سارتر” بأن الإنسان يكون في البداية، ثم ينطلق في العالم، ليعرف نفسه بعد ذلك. ولكن بالمعنى الإنساني والذي قال به من قبل الفيلسوف الدنماركي “سورين كيركيجارد”، ألا وهو: أن كل إنسان مسؤول عن خلق وإيجاد معنى لحياته، وأن يعيش حياته بشغف وصدق، والذي كان من أولوياته حياة الفرد كفرد، وأهمية الاختيار. ربما يكون هذا هو الجانب الآخر من شخصية “إميليا” الجدة في قصة “بلاد السعادة”، والتي قررت بعد أربعين عامًا الرحيل من لبنان، حيث سنين زواجها وأبنائها وأحفادها، والعودة إلى بلادها، لتجد هذا المعنى الإنساني في روحها التواقة للحب والجمال والبلاد التي تشعر فيها وكأنها خُلقت من جديد. وليس هنا تفضيل الأماكن هو المغزى الوحيد من القصة؛ ولكن التحقق الوجودي القائم على الشغف والصدق والارتباط المكاني والذي بدوره يحقق نوعًا من وجود الذات الحقيقي، ومن جانب آخر نجد التحقق الوجودي في قصة “ليس منزلي”، لا يرتبط بالمكان، بقدر ما يرتبط بالحب، هذا الحب الذي جمع الأب والأم والابنة في بوتقة واحدة؛ رغم الفقر والحالة الاجتماعية يظل الرابط الإنساني من أقوى الروابط التي تحقق وجود الفرد وشعوره بذاته. في تأملها لقصص التجربة الوجودية تقول الكاتبة: “اليوم، لم تعد الآثار الشعورية الحسّية والفكرية لتلك القصص كما كانت في أيام سابقة، أو حين خرجت ورُميت على سطح الورق، وخُزّنت في الأدراج ثم نُسجت على الأقراص وحُفظت في الذاكرات الآلية البديلة كي لا تضيع”، هنا تذكرنا الكاتبة بـ “شريط كراب الأخير” مسرحية الكاتب العبثي “صمويل بيكيت”، وفيها نستمع مع كراب تسجيلات سجلها قبل عقود في ريعان شبابه، تحمل كل ذكرياته وطموحاته، وبرغم قسوة تعليقات كراب على هذه الذكريات، يبقى صوته المتفائل والمثالي حاضرًا وبقوة، وهنا تتحقق الوجودية من جانب وأيضًا العبثية من جانب آخر؛ حيث الأحلام والطموحات البريئة في ريعان الشباب. وهذا أيضًا يذكرنا بصوت الكاتبة الداخلي والذي يلازمها ويدفعها إلى التعلق بالحاضر والمستقبل. وفي الجزء المعنون بـ ” قصص من نسج الخيال وتأمل الحياة”، تأخذنا الكاتبة إلى عالم أرحب، ورؤى وفلسفات تغوص بنا في عمق الإنسان، وذلك من خلال قصة ” السعادة الهاربة”؛ لتثير الكثير من الأسئلة، وعلاقة الإنسان وما يرسمه له القدر، وكم التحديات التي يجب علينا خوضها لنحقق ما نتمناه في دائرة من الحب، ما إن نفارقها حتى نعود إليها، وما كانت هذه القصة إلا لهذه الأسئلة وتلك الإجابات، والتي تطرقت بنا إلى الفلسفات القديمة وخصوصًا الفلسفة الهرمسية بقوانينها المختلفة، والتي استقى منها كثير من الفلاسفة أفكارهم ونظرياتهم. وأول هذه القوانين هو “قانون الوحدة”، والذي استقى منه الشيخ الرئيس ابن سينا نظريته عن العقل الكلي ونظرية الفيض، حيث أن كل ما في الكون هو فيض من العقل الأول، أي الله، والذي يتجلى ويفيض عنه كل شيء. أما القانون الثاني ” قانون التماثل أو التطابق”، وكما تقول الكاتبة: يشير هذا إلى وجود تماثل ما بين عالمين متوازيين، “كما فوق كذلك بالأسفل”. وليس هذا القانون إلا ما نادى به أفلاطون في الكتاب العاشر من الجمهورية، وخصوصًا في نظريته الأدبية، والتي تنطلق من إيمانه واستناده إلى الفلسفة المثالية، التي ترى أن الوعي أسبق في الوجود من المادة. لذلك يرى أن الكون مقسّم إلى عالم مثالي وعالم مادي محسوس. يتضمن عالم المُثُل: الحقائق المطلقة والأفكار الخالصة والمفاهيم الصافية النقية.
أما العالم الطبيعي أو عالم الموجودات فهو – بكل ما تحويه – من اشياء واشجار وأنهار مجرد صورة عن عالم المُثُل الأول الذي خلقه الله.
وتمضي بنا الكاتبة مع قوانين الفلسفة الهرمسية، لتصل إلى رمزية الأساطير القديمة وتوغلها في الفهم والشعور الإنساني، حيث تبرز أسطورة إيزيس وأوزوريس معبرةً لكل ما تحوي النفس الإنسانية من تناقضات بداخلها وتجليات لكل العمق الإنساني. ثم تمضي بعد ذلك، تارةً مع حكي شيق في “الحب المفقود” وتارة تغوص إلى عمق الذات الإنسانية وتدرجها، وكأنها تقوم بعملية تشريح نطّلع فيها على ذواتنا ومراحلها وذلك من خلال “سيكولوجية الرفض والتسليم”؛ حيث تسعى إلى فهم جوهري للدين وللواقع متزامنان مع الانسجام الروحي وتناغمًا مع الكون في صورة كلية ومُطلقة. في الحقيقة لا أستطيع أن أفي هذا الكتاب حقه من القراءة والتحليل؛ لما يضم من جوانب شتى، أدبية وفلسفية وعلم النفس، فهي تجربة واعية للدرب الذي تسير عليه، ومنهل للعديد من الجوانب الإنسانية.