بقلم / محمـــد الدكـــروري
وطلب بيبرس من الخليفة أن يكتب له تفويضا مطلق الصلاحية في إدارة الدولة وتسيير شؤونها، فمنحه الخليفة هذا التفويض الذي لم يترك له أية صلاحية، فاقتصر دوره أن يكون رمزا للدولة ومصدر شرعيتها وقد نصّ التفويض أيضا على أن تعمل الدولة على استعادة بغداد، وإعادة كرسي الخلافة إليها، وهو ما تم فعلا، عندما خرج الخليفة بنفسه على رأس جيش نحو العراق، إلا أنه قتل في إحدى المعارك مع المغول قبل بلوغه بغداد، بعد خلافة قصيرة دامت بضعة شهور فحسب ويرى عدد من المؤرخين أن الخليفة الجديد لم يكن راضيا عن نزوله لبيبرس بالسلطة، وأنه كان يطمح من خلال قيادته الجيش إلى الاضطلاع بدور سياسي مستقبلا، أما في القاهرة فقد بويع الحاكم بأمر الله الثاني بالخلافة، ومكث بها ثلاثة عقود، وعموما فإن الدولة العباسية، بمعنى الدولة، قد سقطت مع سقوط بغداد عام ألف ومائتان وثماني وخمسين ميلادي، أما الخلافة العباسية.
فقد استمرت حتى ألف وخمسمائة وسبعة عشر ميلادي، كرمز للدولة، ودورها الديني في كنف الدولة المملوكية، ولم تسقط الخلافة العباسية إلا بعد سقوط الدولة المملوكية، ففي أعقاب معركة مرج دابق، التي انتصر بها السلطان سليم الأول العثماني على المماليك، توجه بجيشه نحو الجنوب، ففتح أغلب مدن بلاد الشام سلما، ومنها انعطف نحو مصر حيث هزم آخر المماليك الأشرف طومان باي، بعد معركة الريدانية قرب القاهرة، وقد اصطحب معه لدى رجوعه من القاهرة آخر الخلفاء العباسيين المتوكل على الله الثالث، والذي تنازل له عن الخلافة، وسلمه رموزها أي بُردة النبي الكريم محمد صلي الله عليه وسلم، وسيف الخليفة عمر بن الخطاب، وبذلك لم تؤل الخلافة من العباسيين إلى العثمانيين فحسب، بل انتهى الفرع الأول من فروع الخلافة كما صنف المؤرخون، وهو الفرع العربي، أو بشكل أكثر دقة فرع قريش، إذ إن جميع الخلفاء السابقين، سواء أكانوا راشدين.
أم كانوا أمويين أم كانوا عباسيين، ينتمون إلى قبيلة قريش، وهي قبيلة النبي الكريم محمد صلي الله عليه وسلم، وافتتح الفرع الثاني، وهو فرع آل عثمان، ونشأ عدد من الدول التي حكمتها السلالة العباسية، بحكم موقعها ورمزيتها في العالم الإسلامي، بعد زوال الدولة العباسية، وفي بعض الحالات قامت الإمارات العباسية قبل زوال خلافتها، وإن كان بشكل مستقل عنها، كما لم يطلب أحد من هؤلاء الأمراء الحق بالخلافة، بعد زوال الخلافة العباسية نهائيا عام ألف وخمسمائة وسبعة عشر ميلادي، أو بعد إلغاء الخلافة عام ألف وتسعمائة واثنين وعشرين ميلادي وعموما فإنه لايزال إلى اليوم، يعيش في مختلف بقاع العالم الإسلامي عدد كبير من الأسر التي تعود بأصلها للأسرة العباسية، ومنها بشكل أساسي في المملكة العربية السعودية، واليمن وتركيا، وإيران وبلاد الشام، ومصر والسودان، والهند وباكستان، وأفغانستان وأوزباكستان وعلى الرغم من انقراض آخر دولهم.
عام ألف وتسعمائة وسبع وستين ميلادي، برز عدد من العباسيين في مواقع مؤثرة كالرئيس السوداني عمر حسن البشير، والشيخ الشريف ماجد العباس مؤذن المسجد الحرام في مكة، وغيرهما، وأيضا إمارة بهدينان وهي أقدم الإمارات العباسية المستقلة تأسيسا، ويعود قيامها إلى عام ألف وثلاثمائة وسبع وستين ميلادي، في كردستان العراق، على يد الملك بهاء الدين العباسي، وهو أحد أحفاد الخليفة المستعصم بالله، وكانت مدينة العمادية، الواقعة في محافظة دهوك حاليا، عاصمتها، وقد تمددت في أوجها لتشمل أجزاء من محافظتي أربيل ونينوى، وعاشت هذه الإمارة زمنا طويلا، استطاعت فيه الحفاظ على استقلالها، رغم كونها تقع على حدود إمبراطوريتين عظيمتين ومتحاربتين بشكل دائم هما الإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية الصفوية، وعلى الرغم من ذلك لم تكن نهايتها على يد إحدى هاتين الإمبراطوريتين إذ كانت نهايتها على يد إمارة كردية منافسة وقريبة منها.
هي إمارة سوران عام ألف وثماني مائة وأربع وثلاثين ميلادي، وسرعان ما قضى العثمانيون على هذه الإمارة أيضا، وأتبعوها ولاية الموصل العثمانية وقد هربت الأسرة الحاكمة، أحفاد المستعصم بالله، إلى حلب، وانتقل قسم منهم إلى جيزان واليمن، وهم مشهورون إلى اليوم بكنية آل عاصم، وأيضا إمارة الجعليين، حيث قامت في شمال السودان المعاصر، وينتسبون مباشرة إلى العباس بن عبد المطلب، دون أن يكونوا من ذرية أحد الخلفاء العباسيين في القاهرة أو بغداد، وبعد اندثار المماليك هرب قسم من العائلة المالكة إلى السودان حيث أعلنوا استقلالهم عام ألف وخمسمائة وثماني وثمانين ميلادي، على يد سعيد أبو دبوس، وقد اتخذ الجعليون من مدينة شندي عاصمة لهم، وتوالى على حكم الإمارة سبعة عشر أميرا عباسيا، إلى أن قضى عليها والي مصر محمد علي باشا، خلال فتحه السودان عام ألف وثماني مائة وثلاث وعشرين ميلادي، موحدا بذلك وادي النيل.