بقلم / محمـــد الدكـــروري
إن المتأمل في القرآن الكريم يستطيع وصفه بأنه كتاب خلق عظيم، وأن الأخلاق جزء وثيق من الإيمان والاعتقاد، فإتمام الأخلاق وصلاحها من أهم مقاصد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد كانت الأخلاق في حياة المسلمين سببا رئيسا لعزتهم وقوتهم ومنعتهم وسعادتهم، فعاشوا فيما بينهم حياة يسودها الحب والتعاون والاحترام المتبادل، فأسسوا حضارة بهرت العالم، وذلك لأن أي حضارة لا تقوم إلا على دعامتين أساسيتين، وهما علمية وأخلاقية، وأما العلمية فهى تنتج التطور والازدهار والرقي السياسي والاقتصادي والعلمي والاجتماعي، وأما الأخلاقية ينتج عنها الأمانة والإخلاص والإتقان والشعور بالمسؤولية وتقديم النفع وحب الخير، فإذا ما ذهبت هاتان الدعامتان أو إحداهما انهارت الحضارات وتفككت المجتمعات وحلّ البلاء بأهلها، وقال الله تعالى ” وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب”
وقال الله تعالى “إنه لا يحب المتكبرين” وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم “بينما رجل يتبختر في مشيه إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلل فيها إلى يوم القيامة” وقيل مر رجل بأحد الصالحين وسأله النصيحة، فقال له عليك بخمس ذكر الله، ثم ذكر الله، ثم ذكر الله، ثم ذكر الله، ثم ذكر الله، فقلت هذه واحدة، فقال بل خمس، قلت كيف ؟ فقال الأولى فتح، والثانية شرح، والثالثة طرح، والرابعة امتحان وجرح والخامسة رضا ومنح، فقلت كيف ؟ زدني، فقال الأولى لولا أن فُتح لك الباب ما شممت رائحة الذكر ولا لنفسك طاب، والثانية لولا أن شرح الله صدرك للذكر ما دام لك، وما داومت عليه، وما استمريت فيه، والثالثة لولا أن طرح عنك الأشغال ما ذقت طعم الذكر ولذة المناجاة، والرابعة لولا أن جرحك وامتحنك بذكر زلاتك، لدخل لك الشيطان من باب العجب بأعمالك ، ولما صفيت من آفاتك، والخامسة رضي عنك فى نهايتك، فمنحك أبوابا من اليقين وكساك لذة مناجاته.
وأن الإسلام وحده إياه، لا غيره ولا سواه، هو موئل القيم والفضائل والشمائل، فكانت مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب ومعالي القيم من أسمى وأنبل ما دعا إليه الإسلام، فقد تميّز بنظام أخلاقي فريد لم ولن يصل إليه نظام بشري أبدا، وقد سبق الإسلام بذلك نظم البشر كلها، وذلك لأن الروح الأخلاقية في هذا الدين منبثقة من جوهر العقيدة الصافية، وقال عليه الصلاة والسلام “يحشر الجبارون المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر يطؤهم الناس يغشاهم الذل من كل مكان” وقال بعض السلف أول ذنب عصي الله به الكبر حيث قال الله تعالى “وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين” فمن استكبر على الحق لم ينفعه إيمانه كما فعل إبليس، وعن النبي صلي الله عليه وسلم قال “لا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال ذرة من كبر” رواه مسلم، وأن هناك فائدة جليلة وجميلة للإمام القرطبي رحمه الله فيقول لماذا شبه الله الدنيا بالماء ؟
حيث يقول الله عز وجل “واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء” فقال الحكماء شبّه الله سبحانه وتعالى الدنيا بالماء ﻷن الماء ﻻ يستقر في موضع، وكذلك الدنيا ﻻ تبقى على حال واحدة، وﻷن الماء يذهب وﻻ يبقى، فكذلك الدنيا تفنى ولاتبقى، وﻷن الماء ﻻ يقدر أحد أن يدخله وﻻ يبتل، وكذلك الدنيا ﻻ يسلم أحد من فتنتها وآفتها، وﻷن الماء إذا كان بقدر كان نافعا مُنبتا، وإذا جاوز المقدار كان ضاراً مُهلكا، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع، وفضولها يضر، وقال الله تعالى “إن الله لا يحب كل مختال فخور” وقال صلي الله عليه وسلم “قال الله تعالى العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما ألقيته في النار” رواه مسلم، وقال صلي الله عليه وسلم ” اختصمت الجنة والنار فقالت الجنة مالي ما يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وقالت النار أوثرت بالجبارين والمتكبرين” وقال الله تعالى “ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور”
أي لا تمل خدك معرضا متكبرا والمرح التبختر، ولقد بلغ من عظم ومكانة الأخلاق في الإسلام أن حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهمة بعثته وغاية دعوته في كلمة عظيمة وهى الأخلاق، وإن أزمتنا اليوم هى أزمة أخلاق، وقال سلمة بن الأكوع أكل رجل عند رسول الله صلي الله عليه وسلم بشماله قال كل بيمينك قال لا أستطيع فقال لا استطعت ما منعه إلا الكبر فما رفعها إلى فيه بعد” رواه مسلم، وقال عليه الصلاة والسلام “ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر” والعتل هو الغليظ الجافي والجواظ هو الجموع المنوع وقيل الضخم المختال في مشيته وقيل البطين، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول ما من رجل يختال في مشيته ويتعاظم في نفسه إلا لقي الله وهو عليه غضبان” وكما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أول ثلاثة يدخلون النار أمير مسلط أي ظالم وغني لا يؤدي الزكاة وفقير فخور.
وفي صحيح البخاري عن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال “ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب” والمسبل هو الذي يسبل إزاره أو ثيابه أو سراويله حتى يكون إلى قدميه لأنه قال “ما أسبل من الكعبين من الإزار فهو في النار” وأشر الكبر الذي فيه من يتكبر على العباد بعلمه ويتعاظم في نفسه بفضيلته، فإن هذا لم ينفعه علمه فإن من طلب العلم للآخرة كسره علمه وخشع قلبه واستكانت نفسه وكان على نفسه بالمرصاد فلا يفتر عنها بل يحاسبها كل وقت ويتفقدها فإن غفل عنها جمحت عن الطريق المستقيم وأهلكته ومن طلب العلم للفخر والرياسة وبطر على المسلمين وتحامق عليهم وازدراهم فهذا من أكبر الكبر ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.